class='ads'>
الثلاثاء، يونيو 23

سؤال وجواب:"كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"


"كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"

الدكتور عبد الرزاق المساوي



الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو، إليه المصير، القائل في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (التحريم/8)

والصلاة والسلام على رسولنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وهادي الخطائين إلى سراط الله المستقيم القائل: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ ما لم يُغَرْغِرْ "رواه الترمذي وصححه الألباني. "ولا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبِهَا "رواه أبو داود وصححه الألباني. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فإني أَتُوبُ في الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ». صحيح مسلم و"الندم توبة" رواه ابن ماجة وصححه الألباني. صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

يقول ابن القيم رحمه الله: «التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» مدارج السالكين(1/ 306). ويقول أيضا: «ولولا أن التوبة اسم جامع لشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان، لم يكن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم، فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيل التوبة وآثارها» المصدر نفسه (1/ 307).

أما بعد:

لقد خلق الله الخلق كلهم أجمعين لطاعته سبحانه وعبادته وتسبيحه، وجعل من بين الخلق خلقا مخيرا هو الثقلان الإنس والجن الذين أمرهم بالطاعة والعبادة ونهاهم عن المعصية والمخالفة، فهم قد فُطِروا على ذلك وخلقوا كذلك، خلقهم وسواهم وهداهم النجدين وبيّن لهم الطريقين وأوضح لهم سبيل الطاعة وسبيل المعصية، بيّنهما لهم بما أرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، وترك لهم الخيار ومن الاختيار يترتب الجزاء، يقول تعالى: "وهديناه النجدين" (البلد:10) ويقول عز من قائل سبحانه: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" (الإنسان:3) لم يتركم خالقهم سدى ولم يهملهم هباء بل بيّن وأوضح وألهم وأوحى وبعث وأنزل ووعد وأنذر "وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ" (الرعد:6) وهو سبحانه أعلم بما خلق، يعلم ضعفهم ويعرف ميولهم، لذلك أمرهم بالطاعة ونهاهم عن المعصية، ثم فتح لهم باب التوبة من المعصية، يقول تعالى: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى"(طـه:82) لقد أمرهم إذا وقع منهم أحد في معصية أو ارتكب  أحدهم خطيئة أو خالف بعضهم أمرا ربانيا، أن يعجل بالتوبة إليه سبحانه وتعالى، ويسرع بالأبوة إليه عز وجل، وألا يؤخر العودة إلى حياض رحمته إنه هو الرحمن الرحيم، وألا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من عفوه سبحانه، نستمع إليه وهو ينادي بأفضل نداء وأحب نداء وأعلى نداء وأحن نداء وأرأف نداء تشعر فيه بالرحمة والرأفة والحنان وهي تسري بين الحروف وبين الفراغات التي بين الحروف بل وفي الوجود كله وهو سبحانه ينادي آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم "قل" وقد نسبنا ونحن العباد إليه وهو رب العباد، فيقول تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم" (الزمر:53) يقول سبحانه وتعالى هذا لعباده لأنه سبحانه يعلم أن الخطأ لا ينفك عن بني آدم حتى يتوفاه، وأن الذنب والمعصية والخطيئة ملازمة له، عن أنس رضي الله عنه  أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ" (رواه الترمذي وأحمد وان ماجة وغيرهم ، وقال الألباني في صحيح الجامع حديث حسن) ويعلم الله سبحانه أن هذا يكون كلٌّ حسب إيمانه وطاعته لربه، فمنهم مستقل ومنهم مستكثر، فالقلوب كالأواني بما مُلِئَتْ.. "فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ" (فاطر:32) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلّم: "تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نُكت فيه نُكتة سوداء وأي قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين : على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف مَعروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه" رواه مسلم، ويشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حالفا "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ" رواه مسلم

إن الله سبحانه وتعالى وعد التائبين على التوبة النصوح الجزاء الأوفى، وعلى الرجوع الصحيح القبول والترحيب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التَّوْبَةُ النَّصُوحُ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللَّهُ يَرْفَعُ بِهَا صَاحِبَهَا إلَى أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " لَوْ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ لَمَا ابْتَلَى بِالذَّنْبِ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ " (مجموع الفتاوي 10/ 293)

 وبيّن سبحانه أنه مهما ارتكب العبد من الآثام، ومهما اقترف من الذنوب، ومهما وقع في الخطايا، ثم تاب إلى الله توبة صادقة، وعاد إلى مولاه عودا طيبا، ونفض نفسه وقلبه وعقله وجسمه وكل حياته من كل ما علق بها من الخطايا والذنوب والآفات، واستغفر وأناب وأقبل على طاعة المولى سبحانه وتاب، ورد المظالم على أصحابها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ" وأعاد الحقوق لأهلها، واستسمح كل من له عليه الحق، وبدل حُسْناً بعد سوء فسيجيبه خالقه سبحانه بقوله "فإني غفور رحيم" (النمل،11) إن الله يتوب عليه على الرغم مما فرط منه، إنه سبحانه يُكفّر عنه سيئاته على الرغم مما بدر منه، بل وقد يرفع له درجاته كلما أخلص في توبته، ويبدل سيئاته حسنات إذا نصح في أوبته، ويُصَيِّرُ حالَه بعد التوبة أفضلَ منه قبل فعل الذنب؛ فإن التوبة تمحو ما قبلها من الذنوب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، بل تُبدل سيئاته حسنات، وينال الغفران والرحمات، يقول تعالى: "وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً. إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" (الفرقان:68 -70) " إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً " وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فقام يطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه حتى أموت، قال: فوضع رأسه على ساعده حتى يموت، فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته" رواه البخاري ومسلم وغيرهما..
قال ابن القيم رحمه الله:" هذا الفرح من الله بتوبة عبده -مع أنه لم يأْت نظيره في غيرها من الطاعات- دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد له بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها" (طريق الهجرتين ص 244).

إن كل من ارتكب صغيرة أو كبيرة، ثم تاب إلى الله منها توبة نصوحا، وندم على ما بدر منه بصدق، وأقبل على الله وأحسن الإقبال، وهجر معصية الله وغادرها ولم يعد إليها بإخلاص، ثم صاحب الأخيار من الناس وسار على دربهم وسلك مسالكهم، وترك صحبة الأشرار وابتعد عن طريقهم وأبعد عنهم نفسه وخلّص منهم ذمته، ثم دامت حاله تلك حتى مات ولقي ربه: غفر الله له برحمته ومنه وفضله، ورفع درجته وأعلى رتبته، وكان أفضل بكثير من كثير ممن لم يرتكب إثما، و لم يسارع في طاعة الله مسارعة هذا التائب، ولا صار بقلبه ما صار بقلب هذا من أنواع العبودية من التوبة والندم وحب الطاعة وبغض المعصية والخوف من الله ورجاء عفوه ومغفرته.. روى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَا هُنَا" فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ "

قال شيخ الإسلام : "إذَا رَأَى تَبْدِيلَ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ طَلَبَ رُؤْيَةَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ الَّتِي كَانَ مُشْفِقًا مِنْهَا أَنْ تَظْهَرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَهُ هَذِهِ مَعَ هَذَا التَّبْدِيلِ أَعْظَمُ مِنْ حَالِهِ لَوْ لَمْ تَقَعْ السَّيِّئَاتُ وَلَا التَّبْدِيلُ " (مجموع الفتاوى10 /293)

وقال ابن القيم رحمه الله: " سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يقول: الصَّحِيحُ أَنَّ مِنَ التَّائِبِينَ مَنْ لَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ - يعني قبل الذنب -، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ إِلَى أَعْلَى مِنْهَا، فَيَصِيرُ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَ الذَّنْبِ .

قَالَ: وَهَذَا بِحَسَبِ حَالِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَجِدِّهِ وَعَزْمِهِ، وَحَذَرِهِ وَتَشْمِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ لَهُ قَبْلَ الذَّنْبِ عَادَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ وَأَعْلَى دَرَجَةً، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ عَادَ إِلَى مِثْلِ حَالِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ يَعُدْ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَكَانَ مُنْحَطًّا عَنْهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " (مدارج السالكين 1 /302)

ويقول شيخ الإسلام رحمه الله:" الذُّنُوبُ تُنْقِصُ الْإِيمَانَ، فَإِذَا تَابَ الْعَبْدُ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَقَدْ تَرْتَفِعُ دَرَجَتُهُ بِالتَّوْبَةِ. فَمَنْ قُضِيَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ كَانَ كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَيَعْجَبُ بِهَا، وَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْهَا " (مجموع الفتاوى10 /45)

إن التوبة النصوح والتي على الرغم مما قال العلماء في شروطها ومقوماتها وخصائصها ومرتكزاتها وأركانها يقول الإمام النووي رحمه الله: "لِلتَّوْبَةِ ثَلَاثَة أَرْكَان: أَنْ يُقْلِع عَن الْمَعْصِيَة، وَيَنْدَم عَلَى فِعْلهَا، وَيَعْزِم أَنْ لَا يَعُود إِلَيْهَا، فَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْب ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لَمْ تَبْطُل تَوْبَته، وَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْب وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِآخَر صَحَّتْ تَوْبَته. هَذَا مَذْهَب أَهْل الْحَقّ" (شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 45) تبقى التوبة النصوح الصافية الكاملة هي تلك التي يجد لها التائب إحساسا فريدا لا يشعر بحلاوته وحلاوتها غير التائب، ولا يستمتع بمفعولها ونشوتها وتأثيرها الإيجابي غير المتمتع بها المتمسك بأهدابها، فلا يهتم المرء بما يعكر صفو هذه الحلاوة ولا يلتفت لمن أراد أن يبطل هذا الاستمتاع، ولا يأبه بكل من يريد قطع خيط التواصل مع الكريم سبحانه كان من كان، وتأمل قول الله تبارك وتعالى: "وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً" (النساء27)، وقال الحق تبارك وتعالى: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة268). فيا عبد الله إذا تبت إلى الله فكن على يقين من أنه هو الذي يغفر الذنوب جميعاً، فلا تتمادى في غيك وطيشك، ولا تتبع شهواتك، واحذر شياطين الإنس والجن فهم على كل الطرقات والمداخل، يدعون إلى النار.. وليعلم التائب أنه هو وحده في قرارة نفسه وعمق ذاته وإحساس روحه يعلم أن الله سبحانه هو الذي يتولى أمره بشكل مباشر ويذكره في ملئه ويقبله في حصنه ويعفو عنه بعفوه ويصلح حاله بعد توبته "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً" (النساء17)، وقال سبحانه: "فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (المائدة39) وقال جل جلاله: "وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" (الشورى25)

هذه التوبة النصوح تمحو كل ما سبق من الذنوب، والله سبحانه يقبل التوبة من التائبين، ويعفو عن المذنبين، ويتجاوز عن المخطئين برحمته التي وسعت كل شيء، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبة الصادقة تمحو جميع الخطايا والذنوب مهما بلغت، شريطة ألا يعود إليها وهو يشعر بزهو وحب لتلك الذنوب، لأنه في هذه الحال سيكون كما جاء عن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ في قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهَ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِى ذَكَرَ اللَّهُ "كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح).... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولو تاب العبد، ثم عاد إلى الذنب قبل الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضاً، ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد، أن يُصِرَّ، بل يتوب، ولو عاد في اليوم مائة مرة" (مجموع الفتاوى 16/ 58) فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: "أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك". صحيح البخاري، صحيح مسلم ومسند أحمد بن حنبل. لا تيئيس لخلق الله من رحمة الله تعالى، ولا تقنيط للناس من عفو الباري سبحانه، ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة" رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وذكره الحافظ في الفتح وقال: رواه ابن حبان وصححه.

هذا للتائب وهو ما يزال حيا يُرْزق فإنه في دنياه يفرح بتوبته النصوح، ويزهو بتكرار عودته إلى ربه الرؤوف الرحيم، ويسعد بأوبته بين الحين والحين إلى رحمة سيده الجواد الكريم، ليقينه بفرحة ربه به وبتوبته، أما إذا كان العبد التائب بين دنياه وأخراه فللمجال حديث آخر وللوضع كلام مغاير وقول مختلف تحكيه لنا قصة الرجل من بني إسرائيل الذي قتل مئة نفس وهو يبحث عن توبة تعيده إلى الخير وترجعه إلى رحمة ربه... عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُد اللَّهَ مَعَهُمْ وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ, فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ.. رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما.

وأما من لقي ربه يوم القيامة بتلك التوبة النصوح الخالصة المخلصة لقيه الله تعالى برحمته الواسعة وعفوه الشامل وستره الكامل ومغفرته التامة... بينما ابن عمر رضي الله عنه يطوف، إذ عرض له رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُدْنَى المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: أعرف رب، أعرف -مرتين- فيقول: سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، ثم تطوى صحيفة حسناته، وأما الآخرون - أو الكفار، أو المنافقون - فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين" أخرجه البخاري ومسلم

وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها: رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فيعرض عليه صغارها، فيقال له: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب، قد عملت أشياء لا أراها هاهنا، قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه أخرجه مسلم والترمذي وأحمد.

إن النصوص في هذا الموضوع كثيرة والأقوال فيه عديدة والمواعظ لا تعد ولا تحصى، ولكن المهم عندنا من هذه العجالة أن كل امرئ تاب تاب الله عليه، واستغفر ربه سيجد الله غفورا رحيما، ولكن عليه بصدق التوبة وحسن الأوبة، والندم على ما فات من الخيرات، وأن يعزم على عدم الرجوع لهذه المعاصي، وأن يكثر فيما تبقى من حياته من فعل الحسنات؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، وليحذر الحذر الشديد من القنوط من رحمة الله، واليأس من روْح الله، فالمولى جل وعلا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وهو الذي وعد وهو الذي يفي سبحانه، لا يتعاظمه إثم أن يغفره، ولا ذنب أن يمحوه، ولا عيب أن يستره، ولا خطيئة أن يتجاوز عنها، ولا معصية أن يعفو عن مرتكبها، فاحرص أيها المسلم وأيتها المسلمة فأنت في دار المهلة، في دار الاختبار، في قاعة الامتحان يمكنك أن تخطئ فتراجع وتتدارك فتمحو أخطاءك وتعيد تصحيحها قبل أن تؤخذ منك الأوراق، احرص واحرصي على التوبة في كل وقت وفي كل حين، وبادر(ي) بالتوبة النصوح بعد ذنبك مباشرة لا تؤجل(ي) لا تؤخر(ي) وتسوف(ي) فلا أحد يدري متى يباغته هادم اللذات، ومفرق الجماعات "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت" (لقمان:34) سارع(ي) إلى مغفرة شاسعة وعفو واسع ورحمة لا حدود لها، عجل(ي) قبل فوات الأوان، فصاحب الشمال لا يكتبها فوراً بل يُمْهِل مهلة من الرحمن لعلك تتوب وإلى الله تؤوب ، فعن أبي أمامةَ رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى اللَه عليه وسلم قال: "إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لِيَرْفَعُ الْقَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ عَنِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ أَوِ الْمُسِيءِ، فَإِنْ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهَا أَلْقَاهَا، وَإِلا كُتِبَتْ وَاحِدَةً" (رواه الطبراني وغيره، وقال الألباني في صحيح الجامع: حديث حسن) أرأيت يا عبد الله ويا أمة الله مدى سعة رحمة الله بعباده المذنبين، التائبين النادمين على ما فعلوه من معاص وآثام؟ فعلينا جميعاً أن نبادر، ونسارع بالتوبة قبل أن تفاجئنا مصيبة الموت، فيا أخي الكريم: بادر بالتوبة ولا تسوف؛ فإن التسويف من الشيطان، اقطع كل صلة تربطك بهذا الماضي السيئ، عليك بمصاحبة أهل الخير ومجالستهم، وحضور مجالس الذكر والعلم، واحذر من قرناء السوء والقرب منهم؛ فمصاحبة الفريق الأول فوز وفلاح في الدارين، ومصاحبة الفريق الثاني شر وفساد وخيبة وخسارة في الدارين، قال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ كَصَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لَنْ يَعْدَمَكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْهُ أَوْ يُحْذِيَكَ أَوْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ ثِيَابَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً " واظب يرحمني ويرحمك الله على الصلوات مع جماعة المسلمين، واكثر من القيام بكل الطاعات ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وابعد نفسك كل البعد عن المعاصي والمنكرات، واقطع دابر أي شيء يوصلك إلى ذلك، أكثر من الاستغفار وقراءة القرآن بتدبر وتمعن، ولا تنس الذكر والدعاء أبدا فهما سلاح المؤمن، واصدق في اللجوء إلى الله سبحانه؛ فإن الله يصدق مع من صدق معه، واقرأ السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وكذلك سير السلف الصالح، وسير التائبين؛ فإن هذا كله سيكون لك عونا بعد الله على الثبات على السراط المستقيم سراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين..

اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين، اللهم تب علينا أجمعين، واغفر لنا خطايانا وارحمنا بترك المعاصي أبداً ما أبقيتنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

0 تعاليق:

إرسال تعليق