class='ads'>
الخميس، أبريل 16

الدرس الثاني من دروس الدورة الشرعية

الدرس الثاني من دروس 

~(الدورة الشرعية)~

تحت عنوان  

في رحاب بدء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم


بقلم الدكتورعبد الرزاق المساوي

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين

وبعد



إن الوضع العام الذي كانت عليه جزيرة العرب والإنسانية عموماً والعربي على الخصوص وقل العالم كله بدون استثناء على الرغم من وجود الفوارق، كان كله في ضلال مبين وكفر متباين قبل البعثة النبوية كان ذاك الوضع حينها يتسم بكثير من السمات والمظاهر جيدها ورديئها حسنها وقبيحها جميلها ومقيتها، إلا أن كل تلك المظاهر المنتشرة في الحياة العامة والخاصة كانت تحكمها وتؤطرها مبادئ معينة وتتخذ لها توجهات محددة، وحتى تلك التي يمكن اعتبارها في ذاتها جيدة ومحمودة ومرغوب فيها وصالحة مبدئياً وتدل على الخيرية ولها قيمة إنسانية لا تعدو أن تكون منبثقة عن قضية رئيسة وتدور في مدارها إذ تجد أن هذا العمل الخيري الجميل مؤطراً ومصاغاً طبقاً لتلك المبادئ والرؤى والمعتقدات التي كانت تستولي على القلوب وتسيطر على العقول وتطغى على الأنفس وكان من أبرزها ومن أعلاها بل والذي قامت عليه كل تلك الخصائص التي ذكرناها بل قل عليه بُنيت الحياة النفسية والأسرية والاجتماعية والعلاقات الدولية لإنسان ذلك العصر هو سيماء العقيدة بمبادئها الشركية وخصائصها الكفرية ومرتكزاتها النِّدِّيَّة ومقومات عباداتها المختلطة من بقايا انتاجات البشرية المنتشرة عبر التاريخ والعصور والأحقاب، والتي من أجل دحرها وقمعها وحربها كانت كل تلك الرسالات التي توالت تترى بوحي من الله تعالى على تلك الكوكبة المشرقة من الأنبياء والرسل الكرام عليهم جميعهم صلوات ربي وسلامه والذين كانوا يحملون همّاً واحداً هو همّ تبليغ الناس دين الله الحق وعبادته عبادة إخلاص وتوحيد تحقيقاً للغاية من خلقهم "وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون"وكان كلما طال على الناس الأمد وقست قلوبهم وغيّروا وبدّلوا وحادوا وابتعدوا يبعث الله رسولاً يدعو إليه بالتوحيد وإخلاص العبودية له دون غيره ويعيد الناس إلى أصلهم الذي كانوا عليه يوم خلق السموات والأرض.. وهكذا من آدم عليه السلام إلى أن طلعت بشائر اقتراب البعثة المحمدية فكان أمر الله الذي لا يعلم الخبأ في السموات والأرض إلا هو سبحانه،اختار عبداً من عباده واصطفاه وهيّأ له الأجواء ورّباه وكفله وتكفّله حضنه وقام بأمره تعهّده برعايته وأحاطه بعنايته كان يتيماً فآواه وكان ضالا فهداه ووجده عائلاً فأغناه، حبّب إليه الخلوة بنفسه وأبعده من معاشرة أقرانه وشغله عن سفاسف أمور قومه وكرّه إليه عادات بني جلدته وأظهره على من في سنّه ورفّعه عما كان رائجاً في مجتمعه، سما بنفسه ونمّا قدرات عقله وأبرز فيه أحسن صفاته وجعله محموداً ومحبوباً بين عشيرته وصادقاً وأميناً في قومه حتى إنّ الناس لحظوا هذه الأخلاق فيه إلى درجة أن السيدة خديجة زوجه رضي الله عنها وأرضاها قالت فيه صلى الله عليه وسلم: "إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق"البخاري.. وذلك بعد أن حكى لها ما وقع له في الغار الذي كان يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، وهذا هو درسنا الثاني لهذا اليوم المبارك وأسأل الله تعالى أن ينفعنا به جميعاً إنه سميع مجيب..
حديث بدء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم موجود في روايات كثيرة منها ما جاء في:



 سنتناوله بالدرس على غير العادة التي ألفنا بها درسه وتحليله وشرحه في الكتب إذ سننظر إليه من زاوية معينة نطل منها لمعرفة مدى التغيير الذي ألحقه هذا الحدث الجلل بالكون كلّه من

حيث مكوناتُه وعلى مدى التحويل الذي قام به في عناصر الزمان والمكان والأحداث، وعلى مدى التأثير الذي مارسه على الإنسان فرداً وجماعة.. لنخرج بنتيجة مفادها أن الإسلام دين متى عاد إلى الناس غيّر فيهم كل شيء، وقلب أمورهم رأساً على عقب ليسويها من جديد على الطريقة التي يرتضيها والشكل الذي يناسبه.. فلا عبرة لما كان وإن جلّ وعظُم إلا إذا كان مسايراً لنهجه متابعاً لطريقه ومشابهاً لدعوته.. فكل شيء لا يسير على الطريق المستقيم ولا يتبع النهج القويم ولا يدين لرب العالمين لا قيمة له في هذا الدين بل هو ضلال مبين يستحق صاحبه ورافعه وحامل لوائه والمقتدي به كل أنواع الإذلال والتحقير والتمقيت.. 

هذا غار حراء، مكان التحنث مكان الهدوء والتدبر والخشوع والسكون والصمت المطبق إلا من حملقات في السماء وأحاديث داخل النفس التواقة للمعرفة.. مكان بعيد عن ضوضاء المدينة أو القرية بعيد عن صخب القوم والملإ من قريش بعيد عن مكدرات الشباب الطائش بعيد عن اللهو واللغو.. لا صوت إلا إذا نطق محمد صلى الله عليه وسلم ولا حركة إلا إذا مال جسم محمد صلى الله عليه وسلم.. مكان تنتشر فيه السكينة والطمأنينة والهدوء والوقار هو رمز التأمل والتفكر والتعبد والتحنث والبعد عن مشاغل القوم كما أن في أركانه تنتشر شروط الأمن والأمان واضحات من مكثه صلى الله عليه وسلم فيه الليالي ذوات العدد ثم يتزود ثم يعود لو لم يكن هذا المكان موفِّراً لشروط الطمأنينة والسلامة والأمن والأمان ما كان لمحمد أن يتحنث فيه ليلة واحدة وما استطاع المكوث فيه أبداً..
هذه فيزيائية المكان الذي يأوي إليه هذا المختار عليه السلام.. حتى إنها أضحت فيزيائية روتينية ومألوفة وربما محنطة لا حركة ولا سكون إلا بإذن الله تعالى..
أما الزمان فكان أهدأَ وأريحَ.. إنه رمضان.. كان مريحاً ومُطمئِناً وكان مفعماً بالسكينة والوقار، زمان في عمومه يحترمه القوم ويقدرونه ويكنّون له المحبّة ويظهرون فيه المودة ولقد سُمي «شهر الصمت» وهو إطالة السكوت والتأمل.. وقبل ذلك كان من أسمائه في التاريخ "تاتل"ومعناها  الذي يغترف الماء من بئر أو عين. و"الزاهر"لأنه يوافق مجيئُه وقت ازدهار النبات عند العرب.. وكانت له أسماء أخرى قبل وبعد الإسلام لكن ما يهمنا هنا هو كونه كان مطية الحال التي كان عليها محمد صلى الله عليه وسلم فيه فقد كان عليه السلام في غاية التفكر والتدبر والصمت والسمت والسكون والهدوء في مكان اتصف هو أيضاً بهذه الصفات فالزمان أخذ شكل المكان وتجلى فيه أضف أليهما الحالَّ فيهما وبهما العبد المجتبى المختار عليه أفضل الصلوات والتسليم..
كان صلى الله عليه وسلم معروفا بطيبة نفسه وهدوء طبعه وحسن خلقه وطمأنينة قلبه وصفاء روحه وكانت خصالا مركوزة فيه وطبْعيَّة لديه عادية عنده وعند قومه..
فلنتصور هذا الشخص الهادئ المطمئن الصامت المتدبر المتحنث في مكان هادئ صامت موقر عالٍ في معارج جبلٍ، في زمان مريح ساكن ودود مزهر.. اجتمع الإنسان والزمان والمكان والحدث التحنث وهذه هي مقومات التاريخ وركائزه ودعاماته كلها في الهدوء والطمأنينة والسكون إلى درجة الألفة والروتين، أي أنها أصبحت هذه المجموعة (شخص ومكان وزمان وحدث) تعيش على طريقة محدَّدة تجري على وتيرة واحدة في عمل الأشياء.. في هذا الجوّ المفعم بتكرار الشيء ذاته إلى درجة الملل والسأم هدوء في هدوء في سكون في صمت.. فلنتصور في لحظة من لحظاته وعلى فجاءة من الوضع يظهر غريبٌ في شكل وبنائه وهيأته وتصرفاته وعلى غرة وعلى غير موعد ولا على بال.. يتغير كل شيء المكان كله والزمان كله والشخص كله والحدث كله في لحظة يتحول من السكون إلى ضجيج ومن الصمت إلى صياح ومن السكينة إلى الاضطراب ومن الهدوء إلى الجلبة.. كل شيء تغير، كل شيء تحول، كل شيء أصبحت معالمه على غير الذي كانت عليه.. تبدل المعتاد عليه في تلك الأجواء.. 
ولقد وقع ما وقع بتدخل طرف آخر غيّر مجرى التاريخ وبدّل أسس الحياة وحرّك الساكن الراكد منها، ذاك الطرف كان هو الوحي في شخص أمين وحي السماء جبرائيل عليه السلام الذي بعثه رب العالمين إلى عبده ورسوله النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم ليغيّر وضعه ويتأهب لتغيير حياة الكون والعالم والناس أجمعين.. تغير كل شيء فقد دب الخوف في الأجواء دبيباً وكسر الصياح سكونَ المكان كسراً وهزّ صمتَ الزمان هزّاً بعد تدخل هذا العنصر الغريب فأصبحت لا تسمع إلا صياحاً وجلبةً وأمراً وألماً وسؤالا وجوابا "اقرأ، ما أنا بقارئ، اقرأ، ما أنا بقارئ اقرأ، ما أنا.. اقرأباسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم" هي هذه الغاية وهذا هو الهدف وهذا هو المقصود لقد اتضحت الصورة وتجلت، وبان الغرض وانكشف، شيء يحيا من جديد وينهض مرة أخرى بعد الركود والركون والروتين الذي عاشه الإنسان والزمان والمكان، موضوع جديد ينبعث بعد فترة تاريخية عاشت الظلام والضلال والظلم والطغيان، تغير كل شيء ساد نور الملك على ظلام الغار وتجاذب الحوار بين جنبات المكان تحرك كل موجود هناك وغير وضعيته التي ألفها، تغير الحال بإرساء كلمة التوحيد التي تحملها الآية القرآنية "اقرأ باسم ربك.."ألقى الملك وتلقاها محمد شخصية الحدث صلى الله عليه وسلم وتلقاها الزمان والمكان ورحبا بها واختلف الوضع وتحوّل.. وغادر الرسول صلى الله عليه وسلم الغار بعد أن تغيرت حاله وارتعدت فرائصه وغاب عنه هدوءه وتولّى عنه صمته  الرسالة الإلـٰهية موسكونه وتركته طمأنينته، غادر المكان وهو يصيح وينادي زملوني دثروني، ترك الأجواء هناك مرتبكة وحمل معه الأمر والنداء بين جنبيه حمل النور في قلبه حمل التغيير في كيانه إلى أن وصل بيت زوجه وألقى بنفسه مرة أخرى في أحضان الهدوء والسكينة والصمت والسكوت بين يدي زوجه خديجة رضي الله عنها وهي تلاحظ الروع الذي بدا عليه والخوف الذي ملكه فأخذت تبعث الطمأنينة في نفسه وتعيد الهدوء إلى خاطره بكلمات طيبات مسكنات مهدءات مطمئنات فروى لها ما وقع وحكى لها ما شاهد وصور لها ما عانى ومن ثمة أبلغه الرسالة ووضع بين جنبيها الأمانة وبلّغ إليها الوحي ولا مس كلامه شغاف قلبها وحرك روحها وزحزح نفسها فزادت في طمْأنته وذكرته بحسن فعاله وفضل خصاله ويذكر الله مرة أخرى في هذا الحدث على لسانها رضي الله عنها "والله لا يخزيك الله أبداً" وتبدأ العقيدة تتوغل في القلبين الطاهرين ويبدأ التغيير يحتل النفسين الزكيتين، فلما تمكن منهما وبأمر من الله وقضاء منه وقدر تخرجن بيت الزوجين بعد أن سطرت فيه أولى علامات التغيير إلى ورقة بن نوفل رمز المجتمع والعالم الخارجي ورمز الديانة السابقة ورمز العالِمِ الدارس ورمز المتدين المفكر ورمز المحنك المجرب والطاعن في السن الحكيم، فلا حكيم إلا ذو تجربة كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً.. 
لقد استطاع هذا الدين منذ اللحظات الأولى أن يبسط يده على مكونات التاريخ فيغيرها وعلى الفرد فيؤثر فيه وعلى الأسرة فيتوغل فيها وعلى المجتمع والعالم الخارجي فيبرز قدرته عليهما وعلى العلم والدين فيهيمن عليهما.. لا غرابة إذا قلنا إن قول الله عز وجل "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" تحققت من أول حركة لهذا الدين من أول آية حملها محمد الأمين كانت عالمية الإسلام تنادي منذ اللحظات الأولى.. 
ويأتي بعد هذه الرحلة القصيرة الدقيقة من حياة الدعوة الربانية والتي تمت فيها أهداف كثيرة وتحققت فيها أغراض مترابطة، يأتي موضوع مرتبط بها أيما ارتباط فهما لا ينفصمان ولا ينفصلان ولا يفترقان فحيثما كانت الأولى كانت الثانية بالتزامن معها..
فعندما سمع ورقة بن نوفل قصة ما حدث وحصل تأثر وتغير وتبدل وعبر وقال بما لا يدع مجالا للشك في صدق ومصداقية محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً لله عز وجل، وكذلك بما لا يترك أدنى ريب في تعلق قلبه بما سمع ورأى.."فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك" نطق لسانه وحاله بما استوعب قلبه وأدرك عقله.. إلى درجة تمنى فيها البقاء والحياة إلى أن يدرك زمان الظهور، ثم ذكر ما قلنا عنه بأنه مرتبط بالدعوة إلى الله تعالى وعبادته وارتباطه هذا وثيق بمسارها منذ البداية ملازم لتلك الكوكبة المضيئة في تاريخ الإنسانية فما من رسول رسول ولا نبيّ نبيّ إلا وذاق من الكأس نفسها، وعاش الضر ذاته وعانى من الشر عينه، مكابدات وفتن ومضايقات وحرب وشر ومعاناة"وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا"الأنعام  112 ولقد أوضح الله معالم الطريق لرسوله الكريم منذ البداية منذ الخطوة الأولى بوحي منه سبحانه عن طريق الملك الذي قال له"اقرأ باسم ربك الذي خلق" وعن طريق ورقة بن نوفل إنسان التجارب الذي أوضح له تبعات "اقرأ باسم ربك الذي خلق" ومستلزماتها وما أحاط بها عندما قال له"ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا" هذه طبيعة الطريق وهذه مشيئة صاحبها سبحانه ولو اطلعتم على ما فعل ربكم لوجدتم خيراً..
وهكذا نأتي على النهاية مذكرين بأن الموضوع يتحدث عن التغيير الذي أحدثه الإسلام منذ بداية الوحي أو على الأقل حمل إرهاصاته والمبشرات به، وعن مدى الاستجابة لهذا التغيير وذاك التأثير من طرف شخص وأسرة ومجتمع فرداً وجماعةً.. والأمر بتوحيد الله رب العالمين الخالق الخلق أجمعين بـ"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" والأمر الأخير هو الصبر والثبات على هذا الأمر لأن طريقه شاقة ولكن نتائجه مضمونة بإذن الله تعالى.. "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين ونفعني الله وإياكم بقرآنه العظيم وسنة نبيه الكريم..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى مع درس من دروس 

~(الدورة الشرعية)~

والله المستعان وعليه التكلان

تحميل ملف "PDF"


0 تعاليق:

إرسال تعليق